فى اتفاقية باريس للمناخ “كوب 21” فى 30 نوفمبر عام 2015، كان هناك اتفاق بين الدول المشاركة، على الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحرارى، والحد من زيادة درجة حرارة الأرض فى هذا القرن عن 1.5 درجة مئوية، قياسا بعصر ما قبل الثورة الصناعية.
أخيرا بدأت قمة المناخ “كوب 26” فى جلاسكو، يوم الاثنين 1 نوفمبر 2021، بمشاركة ممثلين عن 190 دولة.. الهدف من هذه القمة هو إحياء اتفاقية باريس للمناخ، ومن أجل ذلك، يجب خفض الانبعاثات على مستوى العالم بمقدار النصف تقريبا فى خلال العشر سنوات القادمة.
بداية نود أن نقول، أن هناك بعض الدول تتشكك فى بعض أهداف اتفاقيات المناخ ويعتبرونها “سياسية”، فالصين ترى أن هذه الأهداف تضرّ بتطورها الاقتصادى، ولذلك فهى ترى أن ارتفاع درجة حرارة الأرض يجب أن يكون 2 درجة مئوية، وليس أقل من 1.5 درجة مئوية.. أيضا بحجة أن اتفاقية باريس تستهدف الإضرار بالاقتصاد الأمريكى ومقدرته على التنافس، فقد علق الرئيس “ترامب” مشاركة أميركا فى اتفاقية باريس للمناخ، وكذلك البرازيل.
فى قمة المناخ “كوب 26″، وللحد من الانبعاثات وخفض الاحتباس الحرارى، تعهدت أمريكا وبريطانيا بالكثير، منها خفض انبعاثات غاز الميثان، الملوث للبيئة مثل ثانى أوكسيد الكربون، ووقف قطع أشجار الغابات الخضراء حول العالم، وهناك مثال صارخ، فقد قامت البرازيل بقطع مساحات شاسعة من الغابات.
الانبعاثات من ثانى أكسيد الكربون فى عام 2020، وصلت إلى حوالى 35 ميجاطن، الفحم حوالى 14.5 ميجاطن والبترول حوالى 13 ميجاطن والغاز الطبيعى حوالى 7.5 ميجاطن.. الانبعاثات فى عام 2021 اقتربت من مستويات قياسية، ومن المنتظر أن تصل الانبعاثات إلى آفاق جديدة بحلول العام 2023.
الفحم يعتبر المصدر الأول للتلوث، انبعاثات ثانى أوكسيد الكربون الناتجة من حرق الفحم، أكبر من الانبعاثات الناتجة من حرق الغاز الطبيعى والبترول. كان لابد من أن تتعهد الدول بالتخفيض التدريجى لاستخدام الفحم، مع وضع فترة محددة ينتهى بعدها استخدامه.
انتهت قمة المناخ “كوب 26” بتعهدات برّاقة دون أى شروط ملزمة على الدول الصناعية الكبرى، وبذلك يصبح ما طالب به خبراء المناخ فى الأمم المتحدة بضرورة جعل ارتفاع حرارة الأرض أقل من 1.5 درجة مئوية، هو محل شك.
فى مثل هذه الظروف، أصبح خيار الطاقة النووية ملحاً لمواجهة التغير المناخى. كلنا يعلم أن كارثة تشرنوبل وكارثة فوكوشيما النوويتين، أدّتا إلى زعزعة الثقة فى الطاقة النووية بشدة، وكان لهما دور كبير فى تعطيل مشاريع كثيرة لبناء محطات طاقة نووية على مستوى دول العالم، وتعلّق فى الأذهان اعتقاد بأنه ليست هناك حاجة إليها.
أصبح العالم الآن يعيش أزمة فى المناخ، وأصبح من الضرورى الاعتماد تدريجيا على مصادر الطاقة المتجددة والطاقة النووية. فأزمة المناخ تمنح الطاقة النووية فرصة لأخذ وضعها الطبيعى بين مصادر الطاقة النظيفة “خالية من الكربون”، بل وأصبحت الطاقة النووية أحد الحلول الهامة للقضاء على ظاهرة الاحتباس الحرارى، والآن أصبح من الصعب تجنب الخيار النووى فى توفير طاقة نظيفة وآمنة.
أزمة الطاقة التى حدثت فى أوروبا منذ أسابيع قليلة، وكان سببها الرئيسى ارتفاع سعر الغاز الطبيعى، ومع أزمة المناخ، سوف تكون هناك فرصة حقيقية، لكثير من الدول فى التفكير الجاد للاتجاه إلى الطاقة النووية، وخاصة وأن الطاقة النووية أصبحت فوائدها واضحة للجميع فى المشاركة للقضاء على أزمة تغيير المناخ وأزمة التقلّب الحاد فى أسعار البترول والغاز الطبيعى.
محطات الطاقة النووية هى البديل الوحيد لمحطات الطاقة التى تعمل بالوقود الأحفورى، فهى تعمل طوال اليوم وطوال الأسبوع ومعظم ساعات السنة. نجد أن عدد ساعات تشغيل المحطات التى تعمل بالوقود الأحفورى لا تتعدى 65% من عدد ساعات السنة، فى حين نجد فى المقابل أن المحطات النووية تعمل 92% من عدد ساعات السنة، وهذه ميزة كبيرة جدا.
لاعتبارات كثيرة نجد أن محطات الطاقة المتجددة (شمسى ورياح) هى محطات توليد مكملة لمحطات التوليد التقليدية، لكن محطات التوليد النووية هى البديل الوحيدة لمحطات التوليد التقليدية، فمحطات التوليد التقليدية والمحطات النووية تخدم حمل الشبكة الأساسى.. كما أن محطات التوليد التقليدية والمحطات النووية يمكن التحكم فيها من مراكز التحكم القومية والإقليمية، وهذا لا يحدث فى محطات التوليد المتجددة (شمسى ورياح ومائى).
البعض ينظر إلى الفترات الطويلة التى يحتاجها إنشاء محطات نووية، والبعض ينظر إلى المبالغ الكبيرة التى يحتاجها مشروع إنشاء محطة نووية، كما أن البعض ينظر إلى مشكلة النفايات النووية. أعتقد أن زيادة العمر التشغيلى للمفاعلات الحالية قيد التشغيل، أصبح أمرا واقعا، فقد تم تمديد رخص تشغيل المحطات النووية الصالحة “من الجيل الثانى” لمدة 20 سنة، هذه المحطات كان عمرها التصميمى 40 سنة، فأصبح عمرها 60 سنة، بموجب معايير أمان وطنية ودولية صارمة، وهذا جزء من الإجابة.. وإن شاء الله، سوف يمكن تمديد عمر محطات الجيل الثالث وما بعده، من 60 سنة إلى 100 سنة، هذه ميزة مهمة جدا، ولا تتوفر فى أى نوع من محطات توليد الكهرباء، أن يصبح لدى الدولة محطة طاقة، تعمل لمدة 100 سنة.
بالنسبة لمشكلة النفايات عالية الإشعاعية، فإن الحلول المتاحة حاليا تكمن فى التخزين الآمن لهذه النفايات فوق سطح الأرض لمدة 80 سنة، وبذلك أصبحت مدة التخزين 100 سنة، قبل التخزين الدائم. مع العلم أن هذه النفايات يمكن إعادة تدويرها، واستخلاص المواد التى يمكن استخدامها وقودا لمفاعلات الجيل الرابع، وهى توازى 97% من وزن النفايات، وبذلك فإن 3% من النفايات هى التى سوف تخزن تخزينا دائما.
بالنسبة للفترات الطويلة التى يحتاجها إنشاء محطات نووية ذات القدرات الكبيرة، والمبالغ الكبيرة التى يحتاجها إنشاء هذه المحطات، نقول، هذا النوع من المشاريع يكون مناسبا لبعض الدول، أما بالنسبة للدول التى لا يناسب اقتصادها أو شبكتها الكهربائية هذا النوع من المفاعلات، فإنها تستطيع الاعتماد على محطات نووية صغيرة ومتوسطة القدرة، فبناء هذه المحطات يناسبها، والتكلفة فيها أقل من ربع تكلفة المحطات الكبيرة، وبذلك سوف تكون هذه المحطات البديل المفضل لهذه الدول.
هناك شروط لكى تنافس مصادر الطاقة المتجددة مصادر الوقود الأحفورى، من أهمها أن تستطيع تغذية الحمل الأساسى للشبكة، بمعنى أنها تعمل طوال اليوم وطوال الأسبوع وطوال الشهر، وتعمل على الأقل 60% من عدد ساعات السنة، وهو ما يتطلب وسائل تخزين كهرباء ذات قدرات كبيرة لتعويض الطاقة الكهربائية خلال فترة توقف هذه المحطات، لأن هذه المحطات تعمل فقط فترة سطوع الشمس وفترة وجود رياح. حاليا سعر التخزين فى بطاريات فى حدود 122 دولار لكل ميجاوات ساعة، وهذا السعر مرتفع جدا.
فى ظل افتراضات تشغيلية مختلفة ولاعتبارات كثيرة، ومنها على سبيل المثال سعر الفائدة، نجد أن سعر الميجاوات ساعة، يختلف من دولة إلى دولة، ومن محطة إلى محطة من نفس النوع ونفس القدرة، ويختلف باختلاف نوع المحطة وقدرة المحطة، ويختلف من موقع إلى موقع، ولذلك نجد أن القيمة المسواة لسعر الميجاوات ساعة المنتج من المحطات سواء التقليدية أو المحطات النووية أو محطات الطاقة المتجددة، ليس ثابتا على مستوى دول العالم.
فى حالة مقارنة حساب متوسط أسعار الميجاوات ساعة بين المحطات المختلفة، مع الأخذ فى الاعتبار تكاليف تكهين وإزالة المحطة النووية، بعد انتهاء عمرها التشغيلى، وتكاليف التقاط وحجز الكربون الخارج من محطات التوليد التى تعمل بالفحم، نجد الآتى: متوسط سعر الميجاوات ساعة من الطاقة الشمسية 27 دولارا، ومتوسط سعر الميجاوات ساعة من طاقة الرياح 25 دولارا، ومتوسط سعر الميجاوات ساعة من الفحم 42 دولارا، ومتوسط سعر الميجاوات ساعة من الطاقة النووية 29 دولارا، ومتوسط سعر الميجاوات ساعة من محطة توليد دورة مركبة تعمل بالغاز الطبيعى 24 دولارا (على أساس أن سعر الغاز الطبيعى هو 3.45 دولارا لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، أى لكل 28 متر مكعب من الغاز).
إن شاء الله هناك فرصة كبيرة لكى تشارك محطات الاندماج النووى فى منظومة الطاقة بحلول عام 2035. إذا نجحت الجهود التى تبذل حاليا لحل مشاكل الاندماج النووى، أعتقد أن مستقبل الطاقة الكهربائية والحرارية فى العالم سوف يعتمد على مفاعلات الاندماج النووى. هناك حاليا مشاكل تواجه هذا العمل الضخم، من بين هذه المشاكل، مشكلة عدم استمرارية حالة البلازما. ونظرا لأن الاندماج النووى يستمر لبضع ثوان، فإن التحدى القائم حاليا يتمثل فى حصر البلازما لفترة كافية، لكى يسمح لحدوث تفاعل طويل الأمد، بما يكفى للحصول على طاقة مستدامة وبالكمية المطلوبة.
بعد قمة
نتيجة أزمة الطاقة التى حدثت فى أوروبا منذ أسابيع قليلة، ونتيجة تفهم الدول المشاركة فى قمة المناخ “كوب 26” بخطورة الاعتماد على مصادر الوقود الأحفورى، فقد أعلن الرئيس الفرنسى “ماكرون” فى بيان متلفز، الآتى: “من أجل ضمان استقلالية فرنسا من ناحية الطاقة ولضمان إمداد بلادنا بالكهرباء وتحقيق أهدافنا ولا سيما حيادية الكربون فى عام 2050، سنقوم لأول مرة منذ عقود بإعادة بناء مفاعلات نووية فى بلدنا وسنواصل تطوير الطاقات المتجددة”. وفى توقيت متزامن مع ما أعلنه الرئيس الفرنسى.. كشف الرئيس التركى “أردوغان” أن بلده ستبدأ الاستعداد على وجه السرعة لبناء المحطتين الثانية والثالثة فى تركيا، مبررا ذلك بالرغبة فى استقلال البلاد ورفاهية شعبها .. مشيرا إلى أن هناك 443 محطة نووية قائمة فى 32 دولة من دول العالم.. وهو ما يؤكد على حتمية المحطات النووية كمصدر آمن وبديل ونظيف للمصادر الأحفورية.